بنت إبراهيم
أتمت بنت إبراهيم للتو ست سنوات ، ولكنها تتمتع بذكاء يضيف على تلك الست سنوات ثلاثون عاما أخرى من النضج ، هي ببساطة تلك البنت الجميلة التي باغتتني بسؤال على رغم بساطته إلا أنه جعلني أعيد التفكير مرارا وتكرارا على مدار يوم بليله حتى أجد منطق في إجابة على سؤال قد يبدوا بسيطا لأي إقتصادي قرأ بضع أسطر في كتاب ، ولكن بساطة الأمور تعني في بعض الأحيان أمر في غاية الصعوبة، سألتني يعني ايه تضخم ؟
لم يكن بساطة السؤال بالأمر الهين على من إعتاد قراءة المشهد بتعقيداته المملة ، ويتعمق في سلسلة طويلة من الأرقام التي يحاول بشكل كبير أن يبحث عن تحليل منطقي في أمر أصبح أشبه بطلاسم منها لبيانات ومعلومات يستطيع أن يبني من خلالها رؤيه أو رأي ، وفي بعض الأحيان قرار إستثماري مهم ، سألتني وكان علي أن أجيب ببساطه لتفهم تلك الطفلة الرقيقة ماذا هو التضخم الذي أصبح ينهش في جسد المجتمع حتى أصبحت متطلبات الحياة البسيطة أو ما أصطلح عليه إقتصاديا الحد الأدنى للمعيشة بالأمر المكلف وبات حلما لأسر كثيرة قدرا أصبحت تعيش في دولة تشهد إصلاح جذري على الصعيد المالي والإقتصادي والإجتماعي، بل وسياسيا أيضا مع العديد من الأمور والأحداث في الداخل والمنطقة والعالم.
نعم التضخم الأن قارب من مستويات غير قادرة على تحقيق نمو واستقرار إقتصادي ، نطرق أبواب 35% تضخم على أساس شهري ، وهو يعني ببساطة طفلتي المدللة أنك اليوم تشتري ثلثي ماكنتي تشتريه من شهور قليلة بنفس الأموال، نعم هو نفس الجنيه الورقي ولكن قدرته على توفير نفس السلع أصبحت أقل ، ستضطر أن تزيد عليه لتوفير نفس القدر من إحتياجاتك من السلع أو تشتري سلع أقل، ولكن السؤال لم يكن فقط ماذا هو التضخم ولكن لماذا أيضا وهو السؤال الذي توقفت عنده كثيراً ، ليس لصعوبة الإجابة ولكن لأنه جعلني أفكر ملياً فيه بالشكل الذي جعلني أتصور أني أريد أن أعيد ترتيب كل الأمور مرة أخرى بداخلي وأن أقرأ من البداية عن فكرة التضخم ، لأن مايحدث في مصر ويعلن عنه يوميا في كافة وسائل الأعلام من زيادة في نسبة التضخم ومن ثم المركزي يستمر في مسلسله القديم بزيادة أسعار الفائدة لمحاربتها وهذا الصراع الذي ظل حتى شهور قريبة نتعلل بسعر صرف الجنيه أو كما صنفه البسطاء ( انت عارف الدولار بقى بكام ) وهو السؤال الأشهر على مدار اكثر من عامين مروا بشكل كئيب على المناخ الإقتصادي المصري، إلا أن الحالة المصرية هنا مختلفة بشكل كبير، نعم مختلفة فالتضخم اليوم مسبباته ليس لها علاقة بزيادة في الطلب أو إنخفاض في الإنتاج أو حتى معدلات نمو كبيرة أدت لزيادة في السيولة النقدية .
الأمر اليوم ببساطة عنوانه تضخم ركودي نتيجة إصلاح مالي لم يصاحبه إصلاح إقتصادي حقيقي، الجملة قد تبدو معقدة صغيرتي ولكنها أبسط المصطلحات لتوصيف للحالة المصرية، تضخم وهو مانشعر به جميعا وأولهم أنتي في صورة أبسط إحتياجاتك أصبحت تكلفك أكثر بكثير مما كنت تتكلفيه منذ أشهر بسيطة ، ركودي لأن الزيادة لم تأتي نتيجة طلب مرتفع بل مايحدث هو إنخفاض قوي في الطلب بشكل كبير ومع ذلك يستمر معدل الزيادة في الأسعار بشكل كبير، وهو الأمر الناتج عن إصلاح مالي أصطلح خطأ بأنه تعويم ( تحريك لسعر الصرف ليصبح حر مقابل العملات الأجنبية ) وهو ما أدى لزيادة كبيرة في تكلفة المنتج سواء المحلي أو المستورد والإصلاح المالي أيضا شمل الإصلاح الهيكلي لشكل الموازنه العامة للدولة من خلال تخفيض الدعم – هكذا قالوا – من بنزين وكهرباء وغاز وهو ماشكل زيادة كبيرة أيضا في تكلفة الإنتاج الذي أدى لتضخم في الأسعار ، حاول المركزي وهو دوره الأساسي هنا أن يحجم منه بزيادة سعر الفائدة لتقليل الطلب شبه المعدوم فأدى لزيادة التضخم – الإفراط في إستخدام تلك الأداة تؤدي للمردود العكسي - نتيجة لتمرير تلك الزيادة من المنتج المقترض الى المستهلك النهائي ، الذي يقف اليوم ليسألني ويسأل نفسه وغيري ، ( يعني ايه تضخم ) !!
صغيرتي ولأني أحبك، دعيني أكن صريح معك حتى النهاية، الأمر حاولت هنا فقط أن أشرح معانيه ولكن لو أردنا أن نفنده بالأرقام ونبحث فيه عن حلول سنحتاج لكتب لفك شفراته ولن تكفي مساحة رأي للإجابة عنه، ولكن لنتفائل بعض الوقت ، ونعلم أن القادم أصعب مما نتصوره ، والعزيمة على تجاوزه لا يمكن أن يكون بإرادة منفردة من أي من الأطراف، الأمر يحتاج لبناء دولة وإقتصاد جديد بالكامل بمفهوم يختلف كليا عن ما نراه اليوم ، وهو ما سأظل أبحث عنه وأكتب فيه حتى النهاية لعل ما قد أفسدته العقود الماضية أن تصلحه السنوات القليلة القادمة.