نار التشقف ونعيم الديون!
فى اليونان اندلعت أعمال الشعب والعنف احتجاجًا على خطة التقشف التى فرضها الاتحاد الأوروبى على اليونان للإفراج عن القروض المالية الضخمة التى خصصها الاتحاد الأوروبى لتجنب إشهار إفلاس اليونان التى أفرطت فى الاستدانة، وتقضى خطة التقشف التى صوت عليها البرلمان بأغلبية الثلثين بخفض الأجور بواقع 21% وخفض المعاشات وإلغاء بعض الوظائف فى القطاع العام، لذلك ثارت الناس هناك برغم تصويت البرلمان المنتخب لصالح التقشف، لكن غضب الناس يرجع إلى أن خطة التقشف هذه لم تراع العدالة الاجتماعية وتضر بالفقراء وبمحدودى الدخل وأصحاب المعاشات وتزيد من معدل الفقر، لذلك تحولت أثينا إلى جهنم الحمراء، ومع هذا لم يقتل مواطن يونانى واحد لأنه لا يوجد قناصة ولا فلول ولا طرف ثالث!! ولا لهو خفى نراه بأعيننا المجردة!
وتعد حالة اليونان حالة نموذجية جدًا للاقتصاد الذى يعتمد على الديون ويسرف عليها حتى الثمالة المالية، وعندما استفحلت المشكلة، تدخل الاتحاد الأوروبى ليس لإنقاذ اليونان ولكن لإنقاذ اليورو وتم شطب 50% من الديون اليونانية واعتماد برنامج قروض جديد مشروط بشروط مرة يدفع ثمنها الفقراء، وهنا يمارس الاتحاد الأوروبى على اليونان نفس ممارسات البنك الدولى وصندوق النقد السافرة على الدول النامية بفرض إجراءات إصلاحية فى الموازنة لا تراعى الفقراء ومحدودى الدخل ولا طبيعة وهيكل الاقتصاد اليونانى، لذلك جرى ما جرى هناك، لأن رجال السياسة انشغلوا بمقاعدهم ونسوا الناس!! وكانت اليونان قد وصلت إلى حافة الإفلاس بسبب الإفراط فى الاستدانة من الخارج بسبب عجز الموزانة المتفاقم وفساد الإدارة الضريبية هناك، فلم يكن يدفع الضرائب هناك إلا صغار الممولين وفى مقدمتهم الموظفون، لدرجة أن كبار المشاهير هناك كانت ضرائبهم المسددة تقل عن ما يسدده عمال النظافة اليومية من ضرائب هناك، ومن هؤلاء المشاهير زوج إحدى الوزيرات والتى اضطرت للاستقالة بعد تفجر هذه الفضيحة فى الصحف اليونانية.
أما فى مصر، فلدينا عجز مزمن ومتزايد ومفجع جدًا فى الموزنة، ولم نفكر فى اتخاذ أى إجراءات إصلاحية ولا تفشقية أبدًا، ومازالت الدولة تتعامل مع الموضوع كما لو كان عجزًا مؤقتًا، وتتعامل معه بأعصاب باردة وبنفس العقلية العقيمة بتاعة يوسف بطرس غالى، فأسهل شيء إصدار أذون الخزانة والاستدانة من الجهاز المصرفى الذى أصبح الممول الرئيسى لعجز الموازنة وللدين العام فى مصر، وأيضًا اللجوء لمزيد من الاقتراض الخارجى بشروطه المجحفة والمعروفة لرجل الشارع العادى، وكأننا لا نتعلم من تجاربنا وتجارب الدول الأخرى مع القروض الخارجية منذ أيام صندوق الدين إلى أيام صندوق النقد الدولى الذى كان الرئيس المخلوع يتهكم عليه ويسميه صندوق النكد الدولى، ترى من كان مصدر النكد لنا الصندوق أم المخلوع أم كلاهما معًا؟
ولاشك أن موقف الموزانة المصرية ليس متفجرًا ولا معقدًا مثل الحالة اليونانية -ونأمل ألا يصل إلى ذلك- ولكن المؤسف أن من بيدهم الأمر يتجاهلون الحلول الفعالة والمتاحة لعلاج عجز الموازنة، ومن بين هذه الحلول التى طرحها خبراء كبار ووطنيون وفى مقدمتهم المرحوم الدكتور صلاح جودة مدير مركز الدراسات الاقتصادية وأستاذ الاقتصاد المعروف، وتقضى هذه الحلول السريعة بأن تضم الحكومة أموال الصناديق الخاصة والتى تبلغ عدة آلاف صندوق إلى الموازنة العامة للدولة، حيث تضم هذه الصناديق أموالًا طائلة ولا يراقب أحدًا أوجه صرفها، بالإضافة إلى تسريح المستشارين من أجهزة الدولة والذين يقدر عددهم بعدة آلاف تزيد أعمارهم عن الستين سنة، وإعادة النظر فى منظومة الدعم ودعم الصادرات، ثم استرداد أصول الشعب ولاسيما الأراضى من شركات الفساد العقارى أو تحصيل الفرق بسعر السوق الآن منهم بدلًا من محاولة تمرير قوانين تقنن الفساد بتبنى سياسة عفا الله عما سلف!
وبرغم سهولة هذه الحلول وقابليتها للتطبيق السريع، فإن الإصرار على تجاهلها أمر يحيط به الغموض من كافة جوانبه! ونجد دعوات غير عملية بالتبرع بأجر يوم لصالح الموازنة ولصالح مصر فى فانتازيا مالية غريبة جدًا لا طائل من ورائها، فهل مطلوب أن يتبرع المواطنون لدعم تكاليف محاكمات آل مبارك محاكمات فاخرة أم لدعم دفع المكافآت الثابتة الشهرية السخية ليقبض المسشارون المحظوظون الملايين على حسابنا! وهل هو تبرع فعلاّ أم تبرع إجبارى! زى أيام حملة سداد ديون مصر –لوزارة الدكتور على لطفى- والتى لم تسدد بعد برغم ماراثون التبرعات حينذاك!