«استدعي إلى مهام أخرى».. قصة للكاتب الجزائري بوفاتح سبقاق
وأخيرا وجد ت نفسي في مكان مخملي جميل، وجوه مبتسمة ومنتشية طربا وسعادة، هنا يتداول كبار القوم الوضع العام للبلاد وهنا يلتقي كل المتخاصمون عبر وسائل الإعلام.
صديق رجل الأعمال الكبير، كان بطاقة دخولي لهذا الوكر الإستثنائي فقد وعدني بمنصب هام، يجعلني بمنأى عن كل المشاكل اليومية التي يعيشها المواطن العادي.
أخبرني بأن كل من يجلس في هذا المكان سوف تتاح له الفرصة ليصبح سفيرا أو وزيرا أو تسند له مهمة في الخارج في أي هيئة دولية، وهنا ايضا توزع المغانم و المكاسب ويتم تبادل الأدوار من منطقة لأخرى، انه عالم عجيب ومذهل، الوجوه التي تظهر في المشهد السياسي وتحكم في الغالب تكون نتاج لهذه الكواليس التي لا يعرفها أحد.
- طبعا ليس الدخول هنا فقط من يضمن المناصب بل لابد من مقابل قد يكون اموالا او عقارات وامتيازات.. هذا ما قاله صديقي وهو يوزع الإبتسامات في كل الاتجاهات..
- لكنك تعرف بأنني لا املك اي شيء مما ذكرته
- اطمئن سأدفع عنك كل المستحقات، وأنت بالتأكيد سوف ترجعها لي لما تصبح في منصب مرموق في شكل مشاريع وغيرها من الصفقات الحكومية.
وفجأة دخل رجل رفقة حاشيته يبدو من خلال تهافت الجميع عليه بأنه شخصية هامة جدا ويمسك بكل الخيوط التي تحكم دواليب السلطة وبعد دقائق تسنى لنا الجلوس معه.
- سيدي هذا هو صديقي الذي أخبرتك عنه، أفنى سنوات عمره على مقاعد الدراسة لديه شهادة جامعية وشهادة الميلاد طبعا و يرغب في خدمة الوطن من خلال منصب مرموق زيادة على أنه من مدينة داخلية لا يوجد لها أي تمثيل في هرم السلطة.
تناول الرجل المهم جدا كوب عصير و إرتشفه بكل تركيز..
- منصب مهم في هذا الظرف الصعب شبه مستحيل ولكن يمكن ان اتدبر له وظيفة سامية بإمتيازات هامة، تعرف الحكومة تم تشكيلها منذ فترة قريبة و السفراء تم اعتمادهم في الخارج والبرلمان كما تعرف لم يعد بنفس البريق السابق بل أضحى مجرد واجهة سياسية بلهاء لتصفية المعارضة.
تاملت صديقي بكل دهشة وانا استمع الى الناطق الرسمي للعلبة السوداء، فعلا كان الرجل يدرك ما يقوله ويعرف ما سيفعله وفيما كنت افكر في طبيعة المنصب الموعود، نهض صديقي من مكانه واقترب أكثر من فارس أحلامي.
- وما هي المناصب المتوفرة في الوقت الحالي سيدي ؟
وقبل ان يتكلم الرجل تخيلت ان الأمر يتعلق بما يطلبه المرء حين يدخل اي مطعم حول الأطباق المتوفرة او تلك التي يتم اعدادها خصيصا للزبون.
- لدينا القدرة على انشاء مناصب ومهام جديدة للأحبة، ولكن دوما اي مرفق جديد يكون مرتبط بفكرة جديدة، هناك مناصب هامة بعيدة عن الأضواء خاصة تلك المرتبطة بديوان ما او هيئة حكومية ليس لها أي تعامل مع المواطنين.
فعلا وجدت نفسي مندهشا وما كنت أفكر فيه أسمعه على المباشر أي يمكن اعداد طبق خاص للزبون أو بالأحرى احداث منصب او هيئة حسب الطلب، على كل فرصة العمر بدأت تتحقق والرجل يبدو مصدر لكل القرارات المهمة.
تركت صديقي مع صانع المناصب حتى يتسنى لهما التفكير والتفاهم حول مستقبلي في هذا النسق الذي يحكم البلد.
كان المكان يعج بالمتسلقين والإنتهازيين ، فضاء إستثنائي للعرض والطلب، سوق سياسي بامتياز، عشنا سنوات في حلم صنعه اصحاب القرار، اعطونا حب الوطن وأخدوا الوطن، قالوا لنا ان القناعة كنز لا يفنى، تركوا لنا القناعة وأخذوا الكنز.
أمضينا سنوات عمرنا في الطرقات وعلى الأرصفة والمقاهي والمخابز والأسواق في حين كانوا يعيشون حياة أخرى بكل رفاهية وبذخ ، لا يعرفون عن الأوطان سوى مطاراتها وحساباتها البنكية.
موعود أنا بمنصب هام ومازلت أتحدث بإسم المواطن المغلوب على أمره ، يجب ان اعيد ترتيب أوراقي ، فرصة العمر تأتي مرة واحدة.
وفيما كنت افكر في مستقبلي الرائع، اقترب مني صديقي مبتسما وملامحه تدل على انه يحمل أنباء سارة.
- وأخيرا سيتحقق حلمك، لقد عثرنا لك على منصب هام ومميز وهكذا سوف تصبح من رموز الطبقة المخملية التي ستحكم البلد.
- شكرا صديقي كنت على اليقين بأنك سوف تنجح في الأمر ولكن ممكن تخبرني عن طبيعة هذا المنصب.
- لا هذا الأمر ليس من اختصاصي، سوف يخبرك الزعيم الآن وهو في انتظارك.
تنقلنا بسرعة الى الطاولة التي يجلس عليها الزعيم كما سماه صديقي الرجل المهم جدا الذي يصنع المناصب والهيئات والفرص الجميلة.
كان يجري اتصالا هاتفيا مهما فقد بدى منزعج قليلا وفي الأخير أنهى حديثه بتعليمات سريعة، ثم إلتفت نحونا مبتسما......
-انت محظوظ لقد عثرت لك على منصب هام، في الحقيقة هي فكرة جديدة راودتني وانا اطل من شرفة هذا المكان الجميل.
تبدو المدينة مظلمة في هذه الضاحية غالبية مدننا تعيش الظلام وعليه قررت انشاء هيئة جديدة وكما اخبرتك اي فكرة جديدة قد تتيح لنا احداث مناصب ومؤسسات.
وجدت نفسي مضطرا للتدخل وبكل دهشة......
- لكن سيدي لم افهم شيئا، المدينة مظلمة وهل سأكون مديرا للظلام الدامس؟
- العكس تماما صديقي، سوف نقوم بإنشاء الديوان الوطني للإنارة العمومية، وستكون المدير العام وطبعا يعتبر منصب سامي وسيتم تعيينك بمرسوم رئاسي.
مدير عام للضوء أو مدير عام لمناهضة الظلام تبدو فكرة رائعة فعلا الرجل صانع افكار ومناصب وهيئات وهو جدير بجائزة تقديرية للإبداع، وفيما كنت اتخيل مهامي المختلفة واصل الرجل كلامه المقنع و المنطقي.....
- سوف نقوم بإنشاء الديوان بمرسوم بسرعة البرق، فهناك نموذج واحد نعمل عليه دائما يتضمن مواد معروفة متداولة تتحدث عن مقر الديوان ومجلس إدارته وميزانيته.
- شكرا جزيلا على كرمك سيدي اعدك بأن اجعل هذه المدينة والمدن الأخرى تعيش الليل نهارا، سيكون شعاري عمود إنارة في كل مكان، سأهزم الظلام قريبا.
في اليوم الموالي قمت بجولة مسائية عبر كل أحياء المدينة حتى اطلع عن كثب عن واقعها ومدى نقص أعمدة الإنارة ، فعلا وجدت الوضع كارثي، التغطية مرتبطة فقط بالمقرات الرسمية وبعض الأحياء الراقية، ولكن الظلام الدامس يتم توزيعه بكل عدالة على الأحياء الشعبية والضواحي المعزولة.
حين التقيت صديقي اخبرته عن حصيلة جولتي الميدانية وأبديت له مدى تذمري من الرداءة السائدة وأن المنصب الذي وعدت به يعتبر بمثابة هدية ملغومة.
نظر لي بكل استغراب وضحك كثيرا ثم تمالك نفسه وصرخ في وجهي...
- هل انت مجنون أم آخر الرجال المحترمين؟
- ماذا تقصد بكلامك هذا؟ سألته بكل دهشة.
- أولا انت ستكون مدير عام يعني انت ستشرف على الإنارة العمومية عبر كل مدن البلاد، وليست هذه المدينة التي اخبرتني عن واقعها، ثانيا سيكون لك فريق عمل كبير منتشر عبر كل أنحاء البلاد، وأخيرا المنصب المرموق الذي سوف تحصل عليه هو فرصة للسعادة والفرح و ليس للقلق والأحزان.
- فعلا انا احب الفرح والسعادة ولكن يهمني أيضا ان اقوم بالمهمة المسندة لي والنجاح فيها...أجبته بكل ثقة.
- يبدو انك ما زلت مسكون بداء المواطنة، الحياة تسير عادية بدون وجود الهيئة التي ستنشئ من أجلك، تذكر ان الأمر كان مجرد فكرة عابرة من طرف صانع المناصب، وعليه لا تزعج نفسك و قريبا سيكون لك كل الصلاحيات سيادة المدير العام.
مرت أيام والخبر السعيد لم يصل بعد، أصبحت مدمنا على متابعة كل ما يتعلق بالإنارة العمومية واتابع بكل اهتمام مشاكل المواطنين ومعاناتهم مع إنقطاعات الكهرباء او انعدام الإنارة في أحياءهم، حتى انني اصبحت افكر في ضرورة توفير عمود إنارة لكل مواطن، ومن حين لآخر اعيش دور المدير العام بكل ما فيه من بريق السلطة وهالة الامتيازات والنفوذ.
كنت اشاهد صانع المناصب من حين لآخر في نشرات الأخبار الحكومية يظهر في كل مكان، تارة يستقبل الوفود الرسمية وأخرى يفتتح الملتقيات والمهرجانات، واحيانا يدشن بعض المرافق والهيئات الجديدة، فعلا اكتشفت بأنه رقم لا يمكن تجاوزه في معادلة السلطة.
كنت مستلقيا في المساء كعادتي اتابع نشرات الأخبار المختلفة عبر كل القنوات الوطنية، ما أثار انتباهي الغياب التام للرجل الذي سيغير مسار حياتي للأفضل عن المشهد السياسي و الحكومي.
وفجأة رن هاتفي النقال، صديقي على الخط، كنت متلهفا للخبر الذي طال انتظاره.
- للأسف صديقي لن يتحقق حلمك الكبير.
كدت افقد توازني ولكنني تمالكت نفسي وسألته:
- ولكن ماذا حصل؟ هل رحل الرجل عن عالمنا؟
- ابدا لقد رحل من منصبه منذ ساعات، فقد وقع تغيير كبير في هرم السلطة وقد كان محسوب على جناح غير مرغوب فيه في ظل التوزانات الحالية، صدر بيان عاجل عن الرئاسة مفاده أنه استدعي لمهام أخرى.
انهيت المكالمة بكل قلق وعدت الى عوالمي الحزينة فعلا ليس لي حظ في هذا البلد، أغلقت كل اضواء المنزل وقررت ان اعيش في الظلام، من يدري قد ألتقي مستقبلا بصانع أحلام جديد يمنحني منصب مدير عام للعتمة.