ضرائب صفرية
أعلم جيداً مدى المؤهلات الرفيعة لأعلى مسئول اقتصادى بالدولة، أى وزير المالية عمرو الجارحى. فهو يعتبر من أشهر الشخصيات المصرفية التى نملكها وتولى من ضمن ما تولى منصب نائب رئيس مجلس إدارة "بنك الاستثمار القومى" وعضوه المنتدب وكانت له أيضاً مواقع تنفيذية عدة تتعلق بالاقتصاد السياسى بشكل مباشر ما قبل 2011.
ولذا يستعصى على فهمى المتواضع مغزى ما يتبعه من سياسات منذ أن أتى إلى مقعده الحالى فى مارس 2016، وخاصة فيما يتعلق بالفلسفة الضريبية التى هى قلب مسئولياته ومعه نائبه لتلك السسياسات، عمرو المنير والذى عمل بكبريات مكاتب الاستشارات المالية العالمية وشغل عضوية اللجنة الرئيسية لخبراء الأمم المتحدة فى الشئون الدولية الضريبية، وهذا فقط على سبيل المثال ولا الحصر.
نعم، أتعجب عندما أرى تلك الكفاءات الكبيرة من ذوى التاريخ والخبرة وهم يقعون فى أخطاء لا يجب الوقوع فيها لمن يماثلونهم فى المكانة الأكاديمية والعملية حيث لم يعودا يفرقان حتى ما بين "زيادة الضرائب" من ناحية و"زيادة الحصيلة الضريبية" من ناحية أخرى ويتحدثان عن تعظيم مدخول الخزانة العامة من خلال رفع الضرائب على السلع والخدمات وهو إجراء لا علاقة له فى العادة من قريب أو بعيد بزيادة إيرادات الدولة وغالباً ما تتبعه هذه الحكومة أو تلك من باب تقليل القوة الشرائية مثلاً لمنع حدوث ضغط على الأسواق المختلفة قد يُخل بموازين العرض والطلب ويؤدى إلى أزمات متفاقمة فى الإمدادات أو كبديل لرفع سعر الفائدة أو لمنع المواطنين من الإسراف فى استهلاك المنتجات الضارة والتى من الصعب فى الوقت نفسه إيقاف تداولها بقوة القانون وهلم جرا. وكل هذه حالات لا تنطبق على مصر إلا بدرجة قليلة جداً وتخص فى معظم الأحيان دول ذات اقتصادات قوية ومستقرة.
أما "زيادة الحصيلة الضريبية"، فهى فكرة ترتكز على تحفيز حركة الصناعة والتجارة والحفاظ على القوة الشرائية لتحريك الأسواق والارتقاء بالسيولة المُتداولة بما يزيد من النشاط الاقتصادى بشكل عام ويؤدى بالتالى فى نهاية الأمر إلى دخل ضريبى أكبر للدولة حتى مع الإبقاء على النسب الضريبية كما هى.
بعبارة أخرى: "تأتى الزيادة فى الحصيلة الضريبية فى الجزء الأكبر من الحالات عبر تخفيض الضرائب أو عدم رفعها على أقل أضعف الإيمان".
وهذا هو بالضبط ما نحتاجه فى مصر اليوم. ففى ظل موجات الغلاء المتتالية لم يعد مواطن الطبقة الوسطى – القوة الضاربة فى الأسواق – قادراً على شراء العديد من المنتجات بصرف النظر عن مدى احتياجه إليها إن لم تكن من ضروريات الحياة اليومية وبالتالى فلو كانت الحكومة فى الماضى تُحصل ضريبة مقدارها 10% على مُنتج قيمته خمسون جنيهاً، سيصبح دخلها منه خمسة جنيهات بينما رفع الضريبية عليه إلى 30% فسيزيد سعر المستهلك له إلى 65 جنيها بدلاً من 55 وهو فارق سعر قد يعجز المشترى عن دفعه ومن ثم لن تحصل خزانة الدولة على الجنيهات الخمسة عشر المأمولة ولا على الخمسة التى كانت تُورد إليها فى السابق وتكون النتيجة هى الانخفاض الفعلى للحصيلة الضريبية فى نهاية السنة المالية.
قد يكون الرقم المُجرد أعلى من سابقه ولكن غالباً ما يأتى ذلك على خلفية انخفاض قيمة العملة نفسها وهو ما نراه أيضاً بمصرنا العزيزة فى هذه الأيام الصعبة من بعد تعويم الجنيه فى نوفمبر 2016.
صحيح أن قانون الاستثمار الجديد يضج بالمحفزات الضريبية للمستثمرين المحليين والأجانب ولكن ذلك لن يُجدى نفعاً طيلة ما لا تأتى معه تسهيلات ضريبية للمستهلكين بحيث نضمن وجود أسواق لمنتجات هؤلاء المستثمرين.
وفى هذا الإطار ليست الخصومات الضريبية التى استقرت وزارة المالية عليها مؤخراً بالفكرة السيئة ولكنها لن تكون كافية لمعالجة المشكلة التى تحتاج إلى حلول أكثر جذرية على شكل إدارة حوار مجتمعى واسع مع كافة الأطراف المعنية بالسياسات الضريبية، بما فى ذلك المستهلكين أو من ينوب عنهم، سواء من مجلس النواب أو من القوى الفاعلة فى الأسواق نفسها بدلاً من فرض تلك السياسات عليهم بشكل فوقى وإجبارى وبما يتجاهل رأى مجلس النواب فى أحيان كثيرة جداً..
ولكى يتوج ذلك بالنجاح يجب أن تأخذ الحكومة بمُخرجات ذلك الحوار وبأراء الأطراف كافة حتى نصل إلى شكل متزن من السياسة الضريبية ومُناسب للتركيبة الاقتصادية الحالية للمجتمع المصرى.
أما الاعتماد شبه الكلى على سياسات عتيقة لم يعد أحد فى الاعالم يأخذ بها، فسيدفعنا إلى الهاوية حتماً، فكلما أطالع خبراً فى إحدى الصحف أو أراه على شريط الأخبار فى القنوات التليفزيونية بأن الحكومة تعتزم رفع نسبة الضرائب على السجائر والخمور لزيادة موارد الدولة وسد عجز الموازنة، يداهمنى تساؤل عما سيحدث إذا ما قرر الشعب الحفاظ على صحته والإقلاع عن التدخين والتوقف عن احتساء الخمور.
كاتب و خبير فى الاقتصاد السياسى