عاجل
السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس التحرير
مواهب عبدالرحمن

محاولة غير انقلابية.. قصة للكاتب الجزائري بوفاتح سبقاق

بوفاتح سبقاق / جريدة
بوفاتح سبقاق / جريدة الميزان

جلس يرتشف فنجان قهوة في شرفة فندق باريسي مشهور، متأملا عاصمة الجن والملائكة، ينتظر بكل قلق الرجل الذي بإمكانه أن يوصله إلى سدة الحكم ببلده. 
  

غادر الوطن منذ يومين حاملا في حقيبته مشروع انقلاب لم يتجسد لحد الساعة، بالرغم من تواجده في دواليب السلطة منذ سنوات إلا أنه لم يفهم لحد الساعة سر عدم سقوط المعبد على أصحابه، شعبية الحكومة في الحضيض وأزمة اقتصادية خانقة، ولكن الوضع السياسي مازال مستقرا، يعتقد أن رحلته ستكون آخر مسمار في نعش من يحكمون البلد. 


أحزاب المعارضة لن تصل للحكم وأحزاب الموالاة لم تكن يوما في السلطة، وهذا ما جعله يفكر في خطة يعتبرها بمثابة طريق ثالث لا بديل عنه، التغيير داخل نواة النظام أو زعزعة النسق الخفي الذي لا يعرفه أحد. 


إنه يبحث عن وصفة سحرية مذهلة تجعله الرجل القائد والملهم الذي تصفق له الجماهير وتهتف باسمه في الشوارع وفي كل المنابر يريد أن يدخل التاريخ من بابه الواسع ويهزم جغرافيا المكان، بالرغم من فقدان الأمل في هبة شعبية مؤيدة له وخاصة مع سنوات التدجين والخنوع التي جعلت المواطن لا يفكر في تغيير وضعه السياسي أو إسقاط النظام بقدر ما يفكر في الحصول على سكن أو وظيفة ولقمة العيش، جماهير تعيش ولا تعيش، ولكنه من جهة أخرى مقتنع بوجود فئة من الشعب ممكن أن يعول عليها إذا ما تم توظيفها عن طريق نقابات أو جماعات ضغط ونفوذ، والتاريخ السياسي دائما يؤكد أن خروج الناس غالبا ما يكون مفاجئا ومؤثرا، وليست العبرة بالعدد، وكلمة الشعب مصطلح يستعمل دوما لتبرير تصرف أو سلوك فئات من المواطنين، وموكب عرس بإمكانه أن يتحول الى شعب حين يرفع مطالب سياسية. 


أخيرا وصل متعهد الأزمات ببدلته الأنيقة وابتسامته الماكرة فقد أضحى حاضرا عبر كل الفضائيات والندوات والملتقيات في كل أصقاع العالم، يبشر بمستقبل أجمل لكل الشعوب التي تناضل من أجل مكافحة الاستبداد ودكتاتورية الأنظمة والحكام. 


- لدي خبرة دولية في قلب كل أنواع الأنظمة ولدي سجل حافل بإنجازات لا يمكن لأي أحد أن ينكرها، وأفضل المناطق التي تستهويني، القارة الإفريقية التي أعتبرها أروع فضاء انقلابي في العالم، ثم أمريكا الجنوبية والبلدان العربية. 


- طبعا سيدي لا يمكنني إلا أن أعترف بقدراتك الرهيبة في تغيير الأنظمة المستبدة. 

اقترب راعي الأزمات من صاحبنا أكثر وبكل خبث سأله:

- وحين أساعدك على الوصول إلى الحكم ببلدك، هل تضمن لي أنك لن تكون حاكما مستبدا جديدا؟!

- اطمئن يا صديقي تعرف أنني من دعاة الديمقراطية منذ سنوات وشعاري الأساسي هو التداول السلمي على السلطة واحترام الدستور واستقلالية القضاء. 

- نفس الخطاب أسمعه منذ سنوات، إنها اسطوانة مشروخة تستعمل لاستمالة قلوب الجماهير يستعملها كل انقلابي جديد، كان يمكنك الانتظار حتى تصل إلى السلطة عن طريق الصندوق الانتخابي. 


- وهل تصدق أكذوبة الانتخابات عندنا؟ التزوير هو الحاضر الأول في الأوراق أو في الإدارة، دائما هناك وعود بانتخابات نزيهة ولكن في الواقع لا ينجح سوى من تزكيهم دوائر النظام.

لدينا دولة داخل دولة، لقد وصلنا أخيرا إلى مرحلة التزوير الذكي.

نهض متعهد الأزمات من مقعده واقترب أكثر من شرفة الفندق، ثم عاد بكل هدوء إلى مكانه، قائلا بكل استغراب:

- فعلا بالرغم من خبرتي الكبيرة في السياسة وكواليس الأنظمة ودوري الكبير في عدة انقلابات عبر مختلف القارات، وعلاقاتي القوية بالكثير من زعامات العالم، إلا أنني لحد الساعة لم أفهم طبيعة النظام لديكم، نسق خفي لا يمكن فهمه، توازانات معقدة وحسابات لا يمكن توقعها.


- سيدي لدينا أصعب نظام حكم في العالم، لا يمكنك أن تفهم من أين يبدأ وأين ينتهي، كل ما نراه في الواجهة السياسية والإعلامية مجرد بيادق لا غير، لديهم قدرة رهيبة على التزوير بكل أنواعه ويستطيعون التأقلم مع كل الظروف مهما كانت شدتها. 


- ليس هناك دليل عالمي موحد لإسقاط الأنظمة لكل بلد خصوصياته وظروفه، ولكن هناك نظامان لا يمكن إسقاطهما نظام قمعي بوليسي أو نظام منتخب ديمقراطي، أروع الانقلابات حين تكون من داخل الدائرة الضيقة للسلطة، في هذه الحالة تكون نسبة النجاح مرتفعة. 


-نحن لا نعرف حتى من يحكم البلد، وأنت تحدثني عن الدائرة الضيقة، يبدو أن رحلتي لن يكون لها جدوى وسأعود خالي الوفاض. 

ابتسم الراعي الرسمي لكل الثورات والثورات المضادة بكل دهاء محاولا أن يعيد إليه شيئا من الأمل. 

- لا تقلق عزيزي ولا تفقد طموحاتك، قد تكون الطريق طويلة ولكن بتخطيط وتنسيق يمكننا إسقاط النظام عندكم وبالدول المجاورة لكم أيضا، أريد تسونامي سياسيا بالمنطقة يغير كل الموازين.

بعد أسبوع في عاصمة الجن والملائكة والشياطين حانت ساعة العودة الى الوطن من أجل تنفيذ الخطة الجهنمية التي أعدها متعهد الأزمات، التي ترتكز بالأساس على افتعال أزمات في مختلف القطاعات وتحريك بعض وسائل الإعلام الخاصة من أجل هدف واحد هو التغيير السريع الذي سيخدم المعارضة بكل تأكيد. 


لم يكن يعرف بأنه سيساهم في تحديد مصير هذه البلاد، أقدار الأمم قد ترتبط بمواقف وتحركات الرجال، الشعب منوم ومغيب ولا أمل يرجى منه، مواطنون شعارهم الاستهلاك لا يعرفون سوى الأكل والجري وراء ملذات الحياة، المؤسف أن هناك نخبة خارج مجال التغطية لا تعرف سوى المغانم والمكاسب ولا يهمها الوطن وتتشدق أحيانا بالوطنية في المنابر الرخيصة، كل الأوطان في هذا الزمن تشكو من رحيل المواطنة واستقرار الطغيان وقهر الإنسان. 


- أهلا سيدي، أتشرف كثيرا بك ويسعدني أن تركب بجواري.

بالرغم من تواجده بالدرجة الأولى إلا أنه لن ينجو من هذا الرجل الفضولي.....

 – مرحبا بك .. قالها بكل تردد وهذا تفاديا لمواصلة الحديث

ولكن يبدو أن السائل الغريب مختص في إحراج الشخصيات العامة.

-هل سيشارك حزبكم في الانتخابات القادمة سيدي؟ 

وجد نفسه مضطرا لإجابته حفاظا على سمعة الحزب والإجابة جاهزة ومتوفرة دوما ولن تتغير. 

- إننا نراقب الوضع عن كثب وسوف نرى مدى جدية السلطات في ضمان نزاهة وحرية الانتخابات ومن ثمة سوف نستشير قواعد الحزب وهذا من أجل الخروج بقرار مناسب يتماشى مع متطلبات المرحلة. 


اقترب الرجل الفضولي أكثر من صاحبنا وخاطبه بنبرة تدل على وطنية مبالغ فيها أو دراية شاملة بالوضع العام للبلاد. 


-عقدة المعارضة الدائمة سيدي هي النظر للنصف الفارغ من الكوب، وهل تنكرون الاستقرار الذي نعيشه؟ إنجازات كثيرة في الميدان على كل الأصعدة من سكن وطرقات وبنية تحتية تتطور كل يوم، ونمو اقتصادي كبير وانخفاض في نسبة البطالة ودون الحديث على تطور في حقوق الإنسان وضمان الحريات. 


لم يكن يدري أن الأقدار سوف تجعله يسافر رفقة رجل غريب.

يعتبر بمثابة الناطق الرسمي للحكومة، بدا وكأن الرجل صحفي يقدم نشرة اخبار رسمية للتلفزيون الحكومي والتي دوما عناوينها الرئيسية ترتكز على لغة الخشب، والتي تؤكد بـأن البلد بخير وأن كل دول العالم تحسدنا على الاستقرار والخيرات التي ننعم بها وطبعا الإصرار على أن الدولة تسعى جاهدة والعمل بدون هوادة يعني نفس الطقم القديم الذي يستلمه أي صحفي جديد يلتحق بنشرة الأخبار الرسمية.


- سيدي انتظر ردك فيما قلته، يسعدني أن أسمع رأيك حول الوضع العام في الساحة السياسية ومستقبل البلد.


فعلا لا مفر من الحديث مع الرجل وخاصة أن الرحلة لم تنته بعد، اقترب منه أكثر محاولا أن يقرأ في عينيه سر جرأته وثقافته السياسية التي تدل على انه مشروع مناضل يمكن الاستفاذة منه في حشد أكبر قدر من الفئات الاجتماعية التي ينطلي عليها الكلام المعسول.


- سيدي نحن نمثل المعارضة البناءة التي تهدف الى وضع خيار ثالث امام الشعب، لسنا حزبا وطنيا عتيدا ولا حزبا دينيا متطرفا نسعى الى تمثيل فئة سئمت الوعود ولغة الخشب، نريد استقطاب شرائح جديدة من المجتمع، لا يشاهدون نشرة الأخبار الرسمية مواطنون يعيشون العولمة ويعرفون كل شيء ولا يصدقون الأكاذيب.


يسعدني جدا أن تنضم إلينا وتساهم في نهضة سياسية واجتماعية جديدة.


لم تظهر على الرجل الغريب أي علامة تدل على انبهاره أو تأثره بما سمع، كل ما فعله إشارات مبهمة تدل أن الرسالة وصلت، عدل مقعده قليلا واستدار من جديد الى صاحبنا:

وماذا تعطيني كمقابل إن أصبحت من أتباعك؟ 

- خدمة الوطن غايتنا أخي، المهم أنك تساهم معنا في هذه الوثبة التاريخية. 

- أي وثبة تاريخية يا رجل، هل تظن أنك في تجمع انتخابي،  أعرف جيدا كل شيء عن ألاعيب رجال السياسة، وهذا ما جعلني أكون معك صريحا، جميل أن يقفز الوطن ولكن وضعي أيضا يجب أن يتغير الى الأفضل.


لم يكن يتصور بأنه سيتعرض الى إبتزاز سياسي فوق السحاب وهذا الرجل الغريب يبدو مطلعا على كل خبايا وكواليس المشهد السياسي.


من حسن حظه أن المضيفة أعلنت بداية هبوط الطائرة على أرضية المطار وهذه فرصته المواتية للتخلص من هذا الاخطبوط السياسي الذي يجلس بقربه. 

حين بدأت الطائرة تتدحرج، تسنى له أن يشاهد تواجدا كبيرا للأجهزة الأمنية المشتركة على غير العادة، على طول المدرج وعبر كل محاور المطار. 

ما إن توقفت الطائرة حتى فتح هاتفه النقال، أول ما وصله رسالة قصيرة من سكرتيره الخاص في الحزب... فعلا كانت قصيرة جدا ...:

"انقلاب مفاجئ سيدي أنصحك بعدم العودة للوطن".